وقف السائح الاجنبي في احد الباصات السياحية موجها حديثه الى الدليل السياحي بقوله: شكرا لكم على اتاحة الفرصة لنا لزيارة مدينة البتراء في دولة اسرائيل. وعندها غضب الدليل الاردني، وقدم شرحا للمجموعة السياحية عن البتراء وعروبتها، وانها مدينة من مدن المملكة الاردنية الهاشمية.
هذه القصة سمعتها من احد ابناء مدينة العقبة، والسبب ليس جهل السائح، بل لأنه يأتي ضمن مجموعة سياحية من اوروبا عن طريق شركات السياحة الاسرائيلية، وتكون البتراء على البرنامج لأن الاوروبيين يريدون زيارة البتراء. وخلال مدة اقامتهم في اسرائيل، يتم ارسالهم لمدة يوم واحد، من الصباح وحتى المساء، الى البتراء عبر المعبر. وخلال هذه الزيارات، تقوم الشركات السياحية بترويج اسرائيل وسياحتها بشكل يعتقد معه السائح ان البتراء مدينة اسرائيلية وليست عربية اردنية!
ويتحدث بعض ابناء العقبة عن ضرر سياحي يلحق بهم من خلال ما يسمى "سياحة البواخر". فشركات سياحية مصرية تقوم بتنظيم برامج سياحية لزيارة المناطق السياحية في شرم الشيخ وجزيرة ذهب وغيرها، فيأتي السياح عن طريق الطائرات الى مصر ويقضون اياما في المناطق السياحية المصرية، ثم يأتون عبر الباخرة الى العقبة فتلتقطهم الباصات الى البتراء حيث يقضون ساعات النهار فيها ثم يعودون.
القضية هنا ان البتراء كمكان سياحي عالمي مطلوب من السياح، يجري استثماره من قبل الشركات في دول اخرى. فالسائح يقضي ساعات فيها، وما تستفيده السياحة هو باص النقل، وبعض الطعام والشراب. وهذا مردود ضعيف جدا. وبدلا من ان يأتي السائح ويقيم في العقبة، فيستعمل فنادقها ومطاعمها ويشتري من اسواقها، يحقق زيارته للبتراء لكن عبر برامج سياحية الى دول اخرى، بينما العقبة وفعاليتها الاقتصادية والسياحية لا تستفيد شيئا! واحيانا، عندما تأتي بعض الافواج الى البتراء عن طريق شركات سياحية اسرائيلية، لا تشتري حتى زجاجة ماء!
في العقبة يقولون ان لدينا مثلثا سياحيا ذهبيا، يتشكل من العقبة والبتراء ووادي رم. والبتراء ووادي رم منطقتان نادرتان في العالم للسياح الاوروبيين وغيرهم. لكن العمل السياحي ليس خاليا من التنافس الصعب، لهذا كانت الشركات السياحية المجاورة -العربية وغير العربية- تنظم زيارة افواج الاوروبيين الى بلادها وتضع في خطط الترويج اسم البتراء ووادي رم. فهم يستعملون هذا المكان التاريخي والنادر لترويج مناطقهم السياحية، وتحقيق عائد اقتصادي لبلادهم.
ما دامت المنافسة صعبة، والظروف متغيرة، فيفترض ان تكون ادوات الجهات الاردنية، الرسمية والخاصة، بذات صعوبة المنافسة. فإذا كنا لا نستطيع استغلال هذا المثلث الذهبي السياحي وترويجه وتسويقه، فإن لدينا مشكلة او ثغرة سمحت للآخرين بأن يحولوا الكنز السياحي الاردني الى جزء من ادواتهم الاقتصادية.
اعلم ان هنالك منظومة اسباب وراء اي مشكلة، لكن هذا لا يعني عدم وضع وزارة السياحة وهيئة تنشيط قطاع السياحة، وحتى القطاع الخاص امام مسؤولياتهم، الا اذا كان هذا الواقع مرضيا وإيجابيا من وجهة نظر المسؤولين
جسد الحفل الذي أقيم الأسبوع الماضي في مدينة البتراء ونظمته جهات رسمية وشركة من القطاع الخاص، بمناسبة تسلم الأردن وثيقة ترشيح المدينة ضمن قائمة عجائب الدنيا السبع الجديدة، واحدة من صور تزييف التاريخ الحضاري الأردني من جهة، وابرز بوضوح حجم فجوة المعرفة لدى مؤسسات ونخب رسمية من جهة أخرى.
الحفل أطلق برنامجاً ترويجياً بعنوان برنامج إعادة إحياء الحياة النبطية في البتراء، بوجود فريق المؤسسة السويسرية المنظمة للمسابقة العالمية، وقيل ان هذا البرنامج سيستثمر ضمن الحملة الرسمية التي تروج للمدينة وللأردن بشكل عام وسيبث من خلال فضائيات عالمية ووسائل إعلام أخرى. للأسف لم يكن فيه شيء يذكر من حضارة الأنباط وتاريخهم، فهو مجرد استعراض رمزي للجيش الروماني، وسوق رومانية وليست نبطية بكل ما تحمله من رموز حضارية في الملابس والإعلام والرايات والأدوات، والحرف اليدوية، نسخت بعض مشاهده من السينما العالمية التي عنيت بتاريخ الإمبراطورية الرومانية. وبكل سهولة يمكن العودة إلى الفيلم العالمي الشهير "سبارتوكس" لنكتشف أنّ المدينة التي روج لها روما وليست البتراء!
الجهات المعنية لم تكلف نفسها باستشارة جهة علمية متخصصة، بل جاءت بفرقة من القطاع الخاص تمثل التراث الروماني في جرش للقيام بهذا الدور، لتقدم بذلك خدمة جليلة لتيار في الدراسات الآثارية الغربية نما بسرعة خلال الفترة القليلة الماضية يسعى إلى صبغ البتراء النبطية بالصبغة والهوية الرومانية والبيزنطية، ولقد عملت على تعزيز هذا الاتجاه جامعات وبعثات غربية معروفة بعينها، ومن المؤلم أن نجد وسط هذه الضجة التي تركز الانتباه على البتراء مؤسسات رسمية أردنية فتنساق في اتجاه تزييف التاريخ الحضاري لهذا الجزء من الوطن، وكأنها تبيع البتراء لغزاتها الرومان، بعد ان صمدت هذه السنديانة العتيقة قروناً وقاومت بطش روما القديمة ومحاولاتها المتكررة لضمها، وهو الأمر الذي لم يتحقق لها إلا في مطلع القرن الثاني للميلاد بعد أن بدأت شمس روما بالغروب عن الشرق.
تبدو الجرأة على التضليل وترتقي إلى مستوى الجريمة بحق الهوية الوطنية، بالادعاء أنّ المدرج النبطي الموجود في مركز المدينة روماني، على الرغم أنّ هوية المدرج محسومة علميا وتاريخيا وهو مدرج نبطي خالص، كما أنه المدرج الأثري الوحيد في العالم المحفور بالصخر على الطريقة النبطية المعروفة، وإمعانا في التضليل اشتمل الحفل العتيد على استعراض عسكري روماني على هذا المدرج، بينما جاءت البيانات الرسمية كما عكسها الخطاب الإعلامي تصفه بالمدرج الروماني، اعتدنا منذ منتصف العقد الماضي على سرقة إسرائيلية لسياحة البتراء، واليوم يستثمر فقرنا المعرفي وسوء إدارتنا في سرقة الهوية الحضارية الأردنية مجانا.
في آخر مرة التقيت عالم الآثار الأميركي فليب هاموند في البتراء، وهو أهم متخصص في العالم في الآثار النبطية، وكان ذلك عام 2005 في حفل تكريم وداعي له بعد 46 عاما من البحث والحفر والتنقيب والصيانة في عاصمة الأنباط حذّر هذا العالم الكبير من محاولات مشبوهة تسعى إلى تحويل البتراء الى مدينة رومانية وبيزنطية على الرغم من كون الوجود الحضاري الروماني في البتراء احتلاليا، ولا يكاد يذكر بالمقارنة مع قوة الحضارة النبطية.
كان فليب هاموند أكثر أردنية منا؛ قضى أربعة عقود ونصف من عمره، هي نصف عمره بالتمام يقدم البتراء للعالم ويدافع عنها، فقد قدم أول أطروحة دكتوراه في العالم عن الأنباط عام 1957، وقاوم هو وفريقه العلمي كل محاولات تزييف حضارة الأنباط، واثبت عبر عدة مواسم من الحفر والتنقيب أنّ العمل الفني العظيم وسط المدينة هو مدرج نبطي وليس رومانيا، كانت أمنيته أن يحمل الجنسية الأردنية باعتبارها الوريث الشرعي لتراث الأنباط. وفي آخر موسم حفريات له جاء يحمل على ظهره اسطوانة يتنفس منها بعد أن سف في جوفه من تراب الأردن الكثير، هذا العالم الجليل صمد في الدفاع عن الجذور الحضارية للأردن أربعة عقود ونصف في حين لم تصمد النخب الرسمية ولو أيام
هذه القصة سمعتها من احد ابناء مدينة العقبة، والسبب ليس جهل السائح، بل لأنه يأتي ضمن مجموعة سياحية من اوروبا عن طريق شركات السياحة الاسرائيلية، وتكون البتراء على البرنامج لأن الاوروبيين يريدون زيارة البتراء. وخلال مدة اقامتهم في اسرائيل، يتم ارسالهم لمدة يوم واحد، من الصباح وحتى المساء، الى البتراء عبر المعبر. وخلال هذه الزيارات، تقوم الشركات السياحية بترويج اسرائيل وسياحتها بشكل يعتقد معه السائح ان البتراء مدينة اسرائيلية وليست عربية اردنية!
ويتحدث بعض ابناء العقبة عن ضرر سياحي يلحق بهم من خلال ما يسمى "سياحة البواخر". فشركات سياحية مصرية تقوم بتنظيم برامج سياحية لزيارة المناطق السياحية في شرم الشيخ وجزيرة ذهب وغيرها، فيأتي السياح عن طريق الطائرات الى مصر ويقضون اياما في المناطق السياحية المصرية، ثم يأتون عبر الباخرة الى العقبة فتلتقطهم الباصات الى البتراء حيث يقضون ساعات النهار فيها ثم يعودون.
القضية هنا ان البتراء كمكان سياحي عالمي مطلوب من السياح، يجري استثماره من قبل الشركات في دول اخرى. فالسائح يقضي ساعات فيها، وما تستفيده السياحة هو باص النقل، وبعض الطعام والشراب. وهذا مردود ضعيف جدا. وبدلا من ان يأتي السائح ويقيم في العقبة، فيستعمل فنادقها ومطاعمها ويشتري من اسواقها، يحقق زيارته للبتراء لكن عبر برامج سياحية الى دول اخرى، بينما العقبة وفعاليتها الاقتصادية والسياحية لا تستفيد شيئا! واحيانا، عندما تأتي بعض الافواج الى البتراء عن طريق شركات سياحية اسرائيلية، لا تشتري حتى زجاجة ماء!
في العقبة يقولون ان لدينا مثلثا سياحيا ذهبيا، يتشكل من العقبة والبتراء ووادي رم. والبتراء ووادي رم منطقتان نادرتان في العالم للسياح الاوروبيين وغيرهم. لكن العمل السياحي ليس خاليا من التنافس الصعب، لهذا كانت الشركات السياحية المجاورة -العربية وغير العربية- تنظم زيارة افواج الاوروبيين الى بلادها وتضع في خطط الترويج اسم البتراء ووادي رم. فهم يستعملون هذا المكان التاريخي والنادر لترويج مناطقهم السياحية، وتحقيق عائد اقتصادي لبلادهم.
ما دامت المنافسة صعبة، والظروف متغيرة، فيفترض ان تكون ادوات الجهات الاردنية، الرسمية والخاصة، بذات صعوبة المنافسة. فإذا كنا لا نستطيع استغلال هذا المثلث الذهبي السياحي وترويجه وتسويقه، فإن لدينا مشكلة او ثغرة سمحت للآخرين بأن يحولوا الكنز السياحي الاردني الى جزء من ادواتهم الاقتصادية.
اعلم ان هنالك منظومة اسباب وراء اي مشكلة، لكن هذا لا يعني عدم وضع وزارة السياحة وهيئة تنشيط قطاع السياحة، وحتى القطاع الخاص امام مسؤولياتهم، الا اذا كان هذا الواقع مرضيا وإيجابيا من وجهة نظر المسؤولين
جسد الحفل الذي أقيم الأسبوع الماضي في مدينة البتراء ونظمته جهات رسمية وشركة من القطاع الخاص، بمناسبة تسلم الأردن وثيقة ترشيح المدينة ضمن قائمة عجائب الدنيا السبع الجديدة، واحدة من صور تزييف التاريخ الحضاري الأردني من جهة، وابرز بوضوح حجم فجوة المعرفة لدى مؤسسات ونخب رسمية من جهة أخرى.
الحفل أطلق برنامجاً ترويجياً بعنوان برنامج إعادة إحياء الحياة النبطية في البتراء، بوجود فريق المؤسسة السويسرية المنظمة للمسابقة العالمية، وقيل ان هذا البرنامج سيستثمر ضمن الحملة الرسمية التي تروج للمدينة وللأردن بشكل عام وسيبث من خلال فضائيات عالمية ووسائل إعلام أخرى. للأسف لم يكن فيه شيء يذكر من حضارة الأنباط وتاريخهم، فهو مجرد استعراض رمزي للجيش الروماني، وسوق رومانية وليست نبطية بكل ما تحمله من رموز حضارية في الملابس والإعلام والرايات والأدوات، والحرف اليدوية، نسخت بعض مشاهده من السينما العالمية التي عنيت بتاريخ الإمبراطورية الرومانية. وبكل سهولة يمكن العودة إلى الفيلم العالمي الشهير "سبارتوكس" لنكتشف أنّ المدينة التي روج لها روما وليست البتراء!
الجهات المعنية لم تكلف نفسها باستشارة جهة علمية متخصصة، بل جاءت بفرقة من القطاع الخاص تمثل التراث الروماني في جرش للقيام بهذا الدور، لتقدم بذلك خدمة جليلة لتيار في الدراسات الآثارية الغربية نما بسرعة خلال الفترة القليلة الماضية يسعى إلى صبغ البتراء النبطية بالصبغة والهوية الرومانية والبيزنطية، ولقد عملت على تعزيز هذا الاتجاه جامعات وبعثات غربية معروفة بعينها، ومن المؤلم أن نجد وسط هذه الضجة التي تركز الانتباه على البتراء مؤسسات رسمية أردنية فتنساق في اتجاه تزييف التاريخ الحضاري لهذا الجزء من الوطن، وكأنها تبيع البتراء لغزاتها الرومان، بعد ان صمدت هذه السنديانة العتيقة قروناً وقاومت بطش روما القديمة ومحاولاتها المتكررة لضمها، وهو الأمر الذي لم يتحقق لها إلا في مطلع القرن الثاني للميلاد بعد أن بدأت شمس روما بالغروب عن الشرق.
تبدو الجرأة على التضليل وترتقي إلى مستوى الجريمة بحق الهوية الوطنية، بالادعاء أنّ المدرج النبطي الموجود في مركز المدينة روماني، على الرغم أنّ هوية المدرج محسومة علميا وتاريخيا وهو مدرج نبطي خالص، كما أنه المدرج الأثري الوحيد في العالم المحفور بالصخر على الطريقة النبطية المعروفة، وإمعانا في التضليل اشتمل الحفل العتيد على استعراض عسكري روماني على هذا المدرج، بينما جاءت البيانات الرسمية كما عكسها الخطاب الإعلامي تصفه بالمدرج الروماني، اعتدنا منذ منتصف العقد الماضي على سرقة إسرائيلية لسياحة البتراء، واليوم يستثمر فقرنا المعرفي وسوء إدارتنا في سرقة الهوية الحضارية الأردنية مجانا.
في آخر مرة التقيت عالم الآثار الأميركي فليب هاموند في البتراء، وهو أهم متخصص في العالم في الآثار النبطية، وكان ذلك عام 2005 في حفل تكريم وداعي له بعد 46 عاما من البحث والحفر والتنقيب والصيانة في عاصمة الأنباط حذّر هذا العالم الكبير من محاولات مشبوهة تسعى إلى تحويل البتراء الى مدينة رومانية وبيزنطية على الرغم من كون الوجود الحضاري الروماني في البتراء احتلاليا، ولا يكاد يذكر بالمقارنة مع قوة الحضارة النبطية.
كان فليب هاموند أكثر أردنية منا؛ قضى أربعة عقود ونصف من عمره، هي نصف عمره بالتمام يقدم البتراء للعالم ويدافع عنها، فقد قدم أول أطروحة دكتوراه في العالم عن الأنباط عام 1957، وقاوم هو وفريقه العلمي كل محاولات تزييف حضارة الأنباط، واثبت عبر عدة مواسم من الحفر والتنقيب أنّ العمل الفني العظيم وسط المدينة هو مدرج نبطي وليس رومانيا، كانت أمنيته أن يحمل الجنسية الأردنية باعتبارها الوريث الشرعي لتراث الأنباط. وفي آخر موسم حفريات له جاء يحمل على ظهره اسطوانة يتنفس منها بعد أن سف في جوفه من تراب الأردن الكثير، هذا العالم الجليل صمد في الدفاع عن الجذور الحضارية للأردن أربعة عقود ونصف في حين لم تصمد النخب الرسمية ولو أيام