الإعصار الشيطاني
توفي والدنا وتركنا يتيمين، أنا وأخي الذي يصغرني بعام واحد. لم تقصر أمنا في شيء أبداً. رفضت الزواج ونذرت نفسها للعناية بنا. لم تكن تعمل ولكنها كانت امرأة مدبرة، اعتمدت على راتب الشؤون وبعض المال الذي تركه والدنا لتدبر أمورنا. عشنا في بيت جدتنا القديم، وكنا نحلم ونرسم لأنفسنا مستقبلاً جميلاً وخلاباً من خلال اهتمامنا بالدراسة.
أنهيت دراستي الجامعية، ولما خطبني شاب مميز شعرت بأنني على أعتاب السعادة، فما أجمل الأمنيات الحلوة عندما تتحقق، ولكن... يبدو انني ممن كتبت عليهم التعاسة في هذه الحياة الدنيا، ولست متأسفة أبداً لهذا المصير، لأنني أدركت بعد أن اجتزت المحنة بأن المؤمن مبتلى، وأن الحياة الآخرة هي التي تستحق الاهتمام، لذلك قررت باصرار أن أسعى للسعادة في الآخرة، فرضيت وصبرت على كل المحن والصعوبات، وكنت شاكرة لربي في جميع الأحوال.
وأنا في رحلة شهر العسل تعرضت لحادث سيارة مع زوجي الذي كان معروفاً عنه التهور في القيادة، وسبق له أن نجا من حوادث كثيرة ولكنه لم ينج هذه المرة فرحل وتركني أرملة ومقعدة وأنا في الثانية والعشرين من عمري.
مررت بفترة عصيبة من حياتي ولكن مرة أخرى وجدت أمي، تلك الإنسانة الرائعة تقف إلى جانبي باصرار عجيب وصبر وحكمة لتنتشلني من حالة اليأس والاحباط التي وصلت اليها، كانت تصارع المرض بصمت دون أن تخبرنا بأن أجلها هي الأخرى بات قريباً، ماذا أقول؟ أنه مسلسل مليء بالأحداث المؤلمة مرت علينا أنا وأخي وقد أعاننا الله على تخطيها الواحدة بعد الأخرى، كان آخرها رحيل أمنا الغالية، فأطبقت أركان بيتنا العتيق على صدورنا حتى كرهناه وصرنا نتمنى الابتعاد عنه لاعتقادنا بأنه مركز الشؤم في حياتنا.
بداية جديدة
أخيراً بدأت بوادر الفرح تهل علينا من جديد، فبعد أن أنهى أخي دراسته الجامعية حصل على وظيفة جيدة وسكن أنيق في العاصمة، فتركنا ذلك البيت الذي امتلأت أركانه بذكريات تعاستنا ومعاناتنا المتواصلة. مرت علينا فترة لا بأس بها من الاستقرار المادي، ولعب أخي دوراً كبيراً في إبعاد اليأس والقنوط من نفسي فنسيت بأنني مقعدة، وصرت أفعل كل ما بوسعي لاسعاده. وقد زودني إصراري على تجاوز اعاقتي بمهارات ممتازة لإدارة المنزل وإعداد الطعام، وكان أخي يعتز بكل ما أقوم به، وكان يصر على أخذي لأماكن التنزه لأتجاوز الخجل من الكرسي المتحرك فلا أكترث لنظرات الناس من حولي. أخبرت أخي بأن هذه السعادة وهذا الاستقرار الجميل الذي أنعم به الله علينا، ستكتمل جوانبه إن أقدم على الزواج. راقته الفكرة فأوكل إليّ مهمة الاختيار، ولم تكن المهمة صعبة، فأنا عليمة بمشاعر أخي المتأججة نحو ابنة خالتنا، منذ أن كانا صغيرين، لكن الظروف الصعبة التي مررنا بها، كانت تخنق تلك المشاعر الجميلة في مهدها.
الشيء الوحيد الذي كان يؤرقنا أنا وأخي، هو اننا لم نكن ندري شيئاً عن مشاعر تلك الإنسانة اللطيفة الطيبة، فهي فتاة رقيقة هادئة لا تفصح عما بداخلها بسهولة، وقد رفضت بعض من تقدم لطلب يدها بحجة رغبتها في إكمال تعليمها، فقررت أن أبدأ بالمحاولة ولا أترك الفرصة لتضيع.
لا يمكنني وصف سعادتي عندما تحقق لأخي ما أراد، ووجدت ابنة خالتي مسرورة ومنشرحة بهذا العرض ولا تحلم بأكثر من هذا الشاب اللطيف الناجح في حياته. تم الزواج على أفضل وجه وصرنا ثلاثة أصدقاء وأحباب نعيش في هذا العش الجميل. ولم يدم انتظارنا طويلاً حتى حقق الله لنا حلمنا بمجيء الأطفال فانتشر عبيرهم في حياتنا حتى اعتقدنا بأننا أسعد مخلوقات الله على هذه الأرض.
تشاركنا مسؤولية تربية تلك الزنابق الصغيرة ليكبروا وهم في أحسن حال من الصحة والعافية والتفوق العلمي والشخصية الجميلة المتميزة. بنتان وولدان، جمال رائع وأخلاق نبيلة هذا هو حصاد عمرنا، خمسة عشر عاماً من العناية والاهتمام بهم كانت نتائجها في غاية الروعة.
لم التفت إلى التغيرات التي بدأت تطرأ على أخي وزوجته، ملاحظات صغيرة كان يلقيها على مسامعها فتتأذى قليلاً ولكنها سرعان ما تنسى. كنت أفكر بيني وبين نفسي، هل هو جاد في ذلك؟ صحيح أن زوجته نسيت نفسها وأصبحت بدينة بعض الشيء، وهي لا تعتني بشكلها العناية اللازمة، ولكنها إنسانة لطيفة مخلصة ومتفانية من أجل أسرتها، ألا يكفي ذلك؟ ماذا يريد أخي؟ هل يريدها أن تصاب بالهوس فتصب كل اهتمامها على أناقتها وجمالها وتنسى أطفالها وبيتها؟ عجيب أمر الرجال، يطلبون المثالية، وهذا الشيء من الصعب تحقيقه، فمن أجل شيء يتنازل الإنسان عن أشياء كثيرة، هذا هو المنطق. ولكن هل المنطق وهل الحكمة هما السيدان في أفكار البشر؟ بالطبع لا.. فالشيطان اللعين يبقى يوسوس ويزنّ حتى يضعف الإنسان ويتجه للمعصية فيخرب كل شيء جميل في حياته.
كان يوماً مشؤوماً عندما وصلت تلك الخادمة، يومها انقبض صدري، مظهرها لا يدل على أنها خادمة، البنطال الضيق الذي ترتديه والبلوزة القصيرة التي تظهر أجزاء كثيرة من جسدها، ووجها الذي تغطيه المساحيق، هل هذا شكل خادمة؟ بصراحة لم أرتح لهذه المخلوقة وطلبت من أخي إعادتها إلى مكتب العمالة واستقدام غيرها، ولكنه رفض، قال لي بأنها تعرف جيداً ما هو عملها وأنها سترتدي ما نريد وستفعل كل ما نطلبه منها. لم أعلق بشيء خصوصاً وأن زوجة أخي لم تعترض.
بعد فترة من عملها أثبتت أنها شاطرة في عملها، وتجيد كل شيء تقريباً، تعمل دون تذمر أو تكاسل. رغم ذلك لم أشعر بالراحة نحوها، وكانت كل هواجسي متجهة نحو الأطفال فراقبتها لأنني خشيت أن تعلمهم أشياء غير حسنة. واطمأننت بأنها حريصة على الأطفال ولا تقصر معهم في شيء، لكني لاحظت اهتمامها الزائد بأخي، فهي تحرص على ان تقدم له الشاي بنفسها وتعتني ببعض الحلويات التي يحبها، وبوضع مساحيق التجميل كلما عاد إلى المنزل. نبهت زوجة أخي فوجدتها لا تتقبل هواجسي، ولا تتوقع أن يحدث أي شيء سيئ لثقتها الشديدة بزوجها. للأسف حدث ما خشيته وجاء الاعصار الشيطاني بشكل أكثر قسوة مما توقعت.
بعد منتصف الليل ايقظتني ابنة أخي، كانت تبكي بشكل مريع حتى اعتقدت بأن أحدهم قد مات، ولكنها قالت: ألم تسمعي صراخ أمي؟ لقد وجدَتْ أبي في غرفة الخادمة بعد أن بحثت عنه في كل مكان، أرجوك يا عمتي.. أمي ستموت من البكاء.
أسرعت إلى تلك المسكينة فوجدتها في أسوأ حال، تصرخ بشكل هستيري، وقد تجمع أولادها حولها يحاولون تهدئتها بلا جدوى، ماذا أقول؟ الصدمة كانت أكبر من كل توقعاتي.
انهار كل شيء جميل في هذه الأسرة، الحب، الترابط، الثقة، كل شيء ضاع نتيجة ذلك التصرف اللامسؤول، كيف فعلت ذلك يا أخي؟ ألم تفكر لحظة واحدة بالنتائج؟ إنه الشيطان اللعين.. لا يتركنا في حالنا أبداً. ماذا سأفعل لأعيد لهذه الأسرة ما خسرته؟ انه أخي الوحيد، ليس لي في الدنيا أحد سواه. لم يكن من النوع الفاحش طوال حياته، كان شاباً خجولاً طيباً، لا أدري كيف تبدلت أخلاقه بهذا الشكل الغريب؟ لقد انحرف ووقع في الخطيئة دون لحظة تفكير، نسي خوفه من الله، لم يراع مشاعر زوجته الطيبة المخلصة، نسي أولاده وما يمكن أن تتركه فعلته عليهم، نسي كل شيء وانساق وراء غرائزه الحيوانية دون تفكير بالعواقب. تدهورت أحوال الأسرة، رحل الفرح وأحاطت بنا التعاسة من كل صوب؛ الزوجة المخدوعة غرقت في حزن ثقيل، انع** على الجميع، وانغلقت على همومها وظلت تبكي طوال الوقت، الأولاد أفلتوا من الرقابة واتجهوا لدنيا اللعب و''الصياعة'' لينغمسوا فيها بعد أن تهدمت أمامهم كل القيم والمبادئ التي تربوا عليها، البنات بدأن بالتصرفات المشا**ة والعدوانية بعد أن ملأهن الشعور بعدم الأمان، الأب يهيم على وجهه لا يدري أين يذهب طوال النهار، وعندما يعود في الليل فإنه ينام في المجلس نومة غير مريحة ينهض خلالها فزعاً إثر الكوابيس التي باتت تهاجمه. أما تلك الحقيرة، فانزوت في غرفتها، ترفض أن تعمل، وقد شغلت مسجل الأغاني بصوت مرتفع كأنما تريد استفزازنا جميعاً، أي شيطان هي؟ لقد خربت البيت بأعصاب باردة، وهي تشعر بالانتصار. فماذا استطيع أن أفعل لأعيد الأمور إلى نصابها الصحيح؟
نهاية الاعصار
قررت أن اتعامل مع المشكلة بحكمة. في البداية تركت الأمور تسير على مهلها، فالزمن كفيل بمعالجة الجروح. تحدثت مع أخي فوجدته نادماً من رأسه حتى قدمه، وهو يتمنى أن يغفر له ربه وتعفو عنه زوجته وينسى أولاده ذلك المشهد المخزي. أما زوجة أخي فكانت مصرة على الطلاق والرجوع إلى منزل أهلها، فأبقيتها في البيت وطالبتها بالصبر حتى أجد حلاً لهذه المشكلة.
طردت الخادمة من البيت، فقام أخي بتسفيرها بسرعة. جمعت أولاد أخي وتحدثت معهم حديثاً طويلاً عن نقاط ضعف الإنسان ومدى تأثير الشيطان عليه، وقد حاولت جاهدة إعادة لو جزء بسيط من ثقتهم بوالدهم. بعد أن هدأت ثورة زوجة أخي تحدثت معها بعقل وحكمة، فهي صاحبة القرار الآن، كنت أعرف جيداً صعوبة الموقف بالنسبة لها، لكنني طالبتها بالصبر والتضحية من أجل الأطفال، طالبتها بالتغاضي عن إثارة الفضيحة لأنها ستدمر الجميع بلا أدنى فائدة، طلبت منها البقاء في المنزل ووعدتها بأن زوجها لن يقترب منها إلا إذا رضيت نفسها وسامحته.
مرت أشهر من التوتر والقلق. كنت أدعو ربي بشكل متواصل ليصلح بين هذين الزوجين حتى تعود الأمور كما كانت من قبل، وقد استجاب لي ربي. جاءني الأولاد وهم سعداء ليبشروني بأن أمهم وأباهم قد تصالحا. حمدت ربي حمداً كثيراً لأنه أعاد لهذه الأسرة تماسكها وحماها من الاعصار الشيطاني الذي كاد أن يدمرها بشكل كامل.
منقول
توفي والدنا وتركنا يتيمين، أنا وأخي الذي يصغرني بعام واحد. لم تقصر أمنا في شيء أبداً. رفضت الزواج ونذرت نفسها للعناية بنا. لم تكن تعمل ولكنها كانت امرأة مدبرة، اعتمدت على راتب الشؤون وبعض المال الذي تركه والدنا لتدبر أمورنا. عشنا في بيت جدتنا القديم، وكنا نحلم ونرسم لأنفسنا مستقبلاً جميلاً وخلاباً من خلال اهتمامنا بالدراسة.
أنهيت دراستي الجامعية، ولما خطبني شاب مميز شعرت بأنني على أعتاب السعادة، فما أجمل الأمنيات الحلوة عندما تتحقق، ولكن... يبدو انني ممن كتبت عليهم التعاسة في هذه الحياة الدنيا، ولست متأسفة أبداً لهذا المصير، لأنني أدركت بعد أن اجتزت المحنة بأن المؤمن مبتلى، وأن الحياة الآخرة هي التي تستحق الاهتمام، لذلك قررت باصرار أن أسعى للسعادة في الآخرة، فرضيت وصبرت على كل المحن والصعوبات، وكنت شاكرة لربي في جميع الأحوال.
وأنا في رحلة شهر العسل تعرضت لحادث سيارة مع زوجي الذي كان معروفاً عنه التهور في القيادة، وسبق له أن نجا من حوادث كثيرة ولكنه لم ينج هذه المرة فرحل وتركني أرملة ومقعدة وأنا في الثانية والعشرين من عمري.
مررت بفترة عصيبة من حياتي ولكن مرة أخرى وجدت أمي، تلك الإنسانة الرائعة تقف إلى جانبي باصرار عجيب وصبر وحكمة لتنتشلني من حالة اليأس والاحباط التي وصلت اليها، كانت تصارع المرض بصمت دون أن تخبرنا بأن أجلها هي الأخرى بات قريباً، ماذا أقول؟ أنه مسلسل مليء بالأحداث المؤلمة مرت علينا أنا وأخي وقد أعاننا الله على تخطيها الواحدة بعد الأخرى، كان آخرها رحيل أمنا الغالية، فأطبقت أركان بيتنا العتيق على صدورنا حتى كرهناه وصرنا نتمنى الابتعاد عنه لاعتقادنا بأنه مركز الشؤم في حياتنا.
بداية جديدة
أخيراً بدأت بوادر الفرح تهل علينا من جديد، فبعد أن أنهى أخي دراسته الجامعية حصل على وظيفة جيدة وسكن أنيق في العاصمة، فتركنا ذلك البيت الذي امتلأت أركانه بذكريات تعاستنا ومعاناتنا المتواصلة. مرت علينا فترة لا بأس بها من الاستقرار المادي، ولعب أخي دوراً كبيراً في إبعاد اليأس والقنوط من نفسي فنسيت بأنني مقعدة، وصرت أفعل كل ما بوسعي لاسعاده. وقد زودني إصراري على تجاوز اعاقتي بمهارات ممتازة لإدارة المنزل وإعداد الطعام، وكان أخي يعتز بكل ما أقوم به، وكان يصر على أخذي لأماكن التنزه لأتجاوز الخجل من الكرسي المتحرك فلا أكترث لنظرات الناس من حولي. أخبرت أخي بأن هذه السعادة وهذا الاستقرار الجميل الذي أنعم به الله علينا، ستكتمل جوانبه إن أقدم على الزواج. راقته الفكرة فأوكل إليّ مهمة الاختيار، ولم تكن المهمة صعبة، فأنا عليمة بمشاعر أخي المتأججة نحو ابنة خالتنا، منذ أن كانا صغيرين، لكن الظروف الصعبة التي مررنا بها، كانت تخنق تلك المشاعر الجميلة في مهدها.
الشيء الوحيد الذي كان يؤرقنا أنا وأخي، هو اننا لم نكن ندري شيئاً عن مشاعر تلك الإنسانة اللطيفة الطيبة، فهي فتاة رقيقة هادئة لا تفصح عما بداخلها بسهولة، وقد رفضت بعض من تقدم لطلب يدها بحجة رغبتها في إكمال تعليمها، فقررت أن أبدأ بالمحاولة ولا أترك الفرصة لتضيع.
لا يمكنني وصف سعادتي عندما تحقق لأخي ما أراد، ووجدت ابنة خالتي مسرورة ومنشرحة بهذا العرض ولا تحلم بأكثر من هذا الشاب اللطيف الناجح في حياته. تم الزواج على أفضل وجه وصرنا ثلاثة أصدقاء وأحباب نعيش في هذا العش الجميل. ولم يدم انتظارنا طويلاً حتى حقق الله لنا حلمنا بمجيء الأطفال فانتشر عبيرهم في حياتنا حتى اعتقدنا بأننا أسعد مخلوقات الله على هذه الأرض.
تشاركنا مسؤولية تربية تلك الزنابق الصغيرة ليكبروا وهم في أحسن حال من الصحة والعافية والتفوق العلمي والشخصية الجميلة المتميزة. بنتان وولدان، جمال رائع وأخلاق نبيلة هذا هو حصاد عمرنا، خمسة عشر عاماً من العناية والاهتمام بهم كانت نتائجها في غاية الروعة.
لم التفت إلى التغيرات التي بدأت تطرأ على أخي وزوجته، ملاحظات صغيرة كان يلقيها على مسامعها فتتأذى قليلاً ولكنها سرعان ما تنسى. كنت أفكر بيني وبين نفسي، هل هو جاد في ذلك؟ صحيح أن زوجته نسيت نفسها وأصبحت بدينة بعض الشيء، وهي لا تعتني بشكلها العناية اللازمة، ولكنها إنسانة لطيفة مخلصة ومتفانية من أجل أسرتها، ألا يكفي ذلك؟ ماذا يريد أخي؟ هل يريدها أن تصاب بالهوس فتصب كل اهتمامها على أناقتها وجمالها وتنسى أطفالها وبيتها؟ عجيب أمر الرجال، يطلبون المثالية، وهذا الشيء من الصعب تحقيقه، فمن أجل شيء يتنازل الإنسان عن أشياء كثيرة، هذا هو المنطق. ولكن هل المنطق وهل الحكمة هما السيدان في أفكار البشر؟ بالطبع لا.. فالشيطان اللعين يبقى يوسوس ويزنّ حتى يضعف الإنسان ويتجه للمعصية فيخرب كل شيء جميل في حياته.
كان يوماً مشؤوماً عندما وصلت تلك الخادمة، يومها انقبض صدري، مظهرها لا يدل على أنها خادمة، البنطال الضيق الذي ترتديه والبلوزة القصيرة التي تظهر أجزاء كثيرة من جسدها، ووجها الذي تغطيه المساحيق، هل هذا شكل خادمة؟ بصراحة لم أرتح لهذه المخلوقة وطلبت من أخي إعادتها إلى مكتب العمالة واستقدام غيرها، ولكنه رفض، قال لي بأنها تعرف جيداً ما هو عملها وأنها سترتدي ما نريد وستفعل كل ما نطلبه منها. لم أعلق بشيء خصوصاً وأن زوجة أخي لم تعترض.
بعد فترة من عملها أثبتت أنها شاطرة في عملها، وتجيد كل شيء تقريباً، تعمل دون تذمر أو تكاسل. رغم ذلك لم أشعر بالراحة نحوها، وكانت كل هواجسي متجهة نحو الأطفال فراقبتها لأنني خشيت أن تعلمهم أشياء غير حسنة. واطمأننت بأنها حريصة على الأطفال ولا تقصر معهم في شيء، لكني لاحظت اهتمامها الزائد بأخي، فهي تحرص على ان تقدم له الشاي بنفسها وتعتني ببعض الحلويات التي يحبها، وبوضع مساحيق التجميل كلما عاد إلى المنزل. نبهت زوجة أخي فوجدتها لا تتقبل هواجسي، ولا تتوقع أن يحدث أي شيء سيئ لثقتها الشديدة بزوجها. للأسف حدث ما خشيته وجاء الاعصار الشيطاني بشكل أكثر قسوة مما توقعت.
بعد منتصف الليل ايقظتني ابنة أخي، كانت تبكي بشكل مريع حتى اعتقدت بأن أحدهم قد مات، ولكنها قالت: ألم تسمعي صراخ أمي؟ لقد وجدَتْ أبي في غرفة الخادمة بعد أن بحثت عنه في كل مكان، أرجوك يا عمتي.. أمي ستموت من البكاء.
أسرعت إلى تلك المسكينة فوجدتها في أسوأ حال، تصرخ بشكل هستيري، وقد تجمع أولادها حولها يحاولون تهدئتها بلا جدوى، ماذا أقول؟ الصدمة كانت أكبر من كل توقعاتي.
انهار كل شيء جميل في هذه الأسرة، الحب، الترابط، الثقة، كل شيء ضاع نتيجة ذلك التصرف اللامسؤول، كيف فعلت ذلك يا أخي؟ ألم تفكر لحظة واحدة بالنتائج؟ إنه الشيطان اللعين.. لا يتركنا في حالنا أبداً. ماذا سأفعل لأعيد لهذه الأسرة ما خسرته؟ انه أخي الوحيد، ليس لي في الدنيا أحد سواه. لم يكن من النوع الفاحش طوال حياته، كان شاباً خجولاً طيباً، لا أدري كيف تبدلت أخلاقه بهذا الشكل الغريب؟ لقد انحرف ووقع في الخطيئة دون لحظة تفكير، نسي خوفه من الله، لم يراع مشاعر زوجته الطيبة المخلصة، نسي أولاده وما يمكن أن تتركه فعلته عليهم، نسي كل شيء وانساق وراء غرائزه الحيوانية دون تفكير بالعواقب. تدهورت أحوال الأسرة، رحل الفرح وأحاطت بنا التعاسة من كل صوب؛ الزوجة المخدوعة غرقت في حزن ثقيل، انع** على الجميع، وانغلقت على همومها وظلت تبكي طوال الوقت، الأولاد أفلتوا من الرقابة واتجهوا لدنيا اللعب و''الصياعة'' لينغمسوا فيها بعد أن تهدمت أمامهم كل القيم والمبادئ التي تربوا عليها، البنات بدأن بالتصرفات المشا**ة والعدوانية بعد أن ملأهن الشعور بعدم الأمان، الأب يهيم على وجهه لا يدري أين يذهب طوال النهار، وعندما يعود في الليل فإنه ينام في المجلس نومة غير مريحة ينهض خلالها فزعاً إثر الكوابيس التي باتت تهاجمه. أما تلك الحقيرة، فانزوت في غرفتها، ترفض أن تعمل، وقد شغلت مسجل الأغاني بصوت مرتفع كأنما تريد استفزازنا جميعاً، أي شيطان هي؟ لقد خربت البيت بأعصاب باردة، وهي تشعر بالانتصار. فماذا استطيع أن أفعل لأعيد الأمور إلى نصابها الصحيح؟
نهاية الاعصار
قررت أن اتعامل مع المشكلة بحكمة. في البداية تركت الأمور تسير على مهلها، فالزمن كفيل بمعالجة الجروح. تحدثت مع أخي فوجدته نادماً من رأسه حتى قدمه، وهو يتمنى أن يغفر له ربه وتعفو عنه زوجته وينسى أولاده ذلك المشهد المخزي. أما زوجة أخي فكانت مصرة على الطلاق والرجوع إلى منزل أهلها، فأبقيتها في البيت وطالبتها بالصبر حتى أجد حلاً لهذه المشكلة.
طردت الخادمة من البيت، فقام أخي بتسفيرها بسرعة. جمعت أولاد أخي وتحدثت معهم حديثاً طويلاً عن نقاط ضعف الإنسان ومدى تأثير الشيطان عليه، وقد حاولت جاهدة إعادة لو جزء بسيط من ثقتهم بوالدهم. بعد أن هدأت ثورة زوجة أخي تحدثت معها بعقل وحكمة، فهي صاحبة القرار الآن، كنت أعرف جيداً صعوبة الموقف بالنسبة لها، لكنني طالبتها بالصبر والتضحية من أجل الأطفال، طالبتها بالتغاضي عن إثارة الفضيحة لأنها ستدمر الجميع بلا أدنى فائدة، طلبت منها البقاء في المنزل ووعدتها بأن زوجها لن يقترب منها إلا إذا رضيت نفسها وسامحته.
مرت أشهر من التوتر والقلق. كنت أدعو ربي بشكل متواصل ليصلح بين هذين الزوجين حتى تعود الأمور كما كانت من قبل، وقد استجاب لي ربي. جاءني الأولاد وهم سعداء ليبشروني بأن أمهم وأباهم قد تصالحا. حمدت ربي حمداً كثيراً لأنه أعاد لهذه الأسرة تماسكها وحماها من الاعصار الشيطاني الذي كاد أن يدمرها بشكل كامل.
منقول